فرق الفنون الشعبية في ليبيا
إلى أين ؟؟؟
لقد كان لمن فكر أوائل سبعينيات القرن الماضي من المهتمين بالثقافة والفنون الشعبية في ليبيا نحو تأسيس فرق فنية بالمحافظات العشر حينذاك خطة طموحة غايتها جمع مظاهر الفنون الشعبية المتباينة في ليبيا .
ولكن كنتيجة للجهل بالطرق المثلى والمناهج العملية الواضحة التي تفرضها طبيعة كيفية التعامل مع هذه الموروثات الشعبية لجمعها وبحثها بالأساليب العلمية لحفظها للأجيال القادمة ، وحبا للذات وتكريسا للنزعات الانحيازية للمنطقة أو القبيلة وانسياقا وراء تحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة التي باتت لا تهم الكثيرين أمام إغراءات الحياة المادية والمعنوية ، فقد خرجت هذه الفرق عن سياق خطط العمل المرسومة لها وصار بعض أعضائها يرون إن فرقهم هي الأخرى "فرقا وطنية ليبية" بمفهومهم الضيق لهذا المصطلح ، وبالتالي يجوز لها بل ومن حقها "تمثيل ليبيا" بالخارج بغض النظر عن برنامجها الفني وما يحويه من أعمال فنية سواء كان شاملا وفقراته فعلا منتقاة من كل الفنون الشعبية الليبية في مختلف المناطق أم لا ، وبانتشار هذا المطلب بين المسئولين بهذه الفرق ، وفي ظل غياب القوانين التي تحمي التراث والفنون وتجاهل لوائح التقنين لإنشاء الفرق الفنية وكذلك الفوضى واللامبالاة التي كان يتسم بها العمل في هذا المجال خلال فترة الحكم السابق حيث نمت روح الأنانية وحب الذات وتغليب المصالح الخاصة على مصلحة الوطن ، الأمر الذي جعل إعداد البرامج الأساسية لبعض هذه الفرق الناشئة من واقع بيئاتها قد انحسر ، وخرجت مكونات برامجها عن نطاق المحافظة أو المنطقة التي يفترض أن تعمل الفرقة بداخل حدودها ، وهكذا فقد أدخلت ضمن برامج بعض الفرق العديد من الأعمال الفنية التراثية التي لا علاقة لأعضائها بها فظهرت مشوهة ، ولتوضح ذلك أقول مثلا: "فرقة فنون شعبية" من محافظات المناطق الشرقية الليبية التي تتحلى فنونها الشعبية بحيثيات ومكونات لها صفات خاصة من ناحية الموسيقى وآلاتها وفنون الغناء وأنغامها وفن التعبير بالحركة وأنواعه ومصادره وطرق أدائه ، وإن أهم ما ترتكز عليه هذه الفنون هو الشعر العامي المنغم والتفنن في إلقائه بطرق شتى ، إضافة إلى آلة "المزمار الشعبي والزمارة الشعبية" ، وهو ما جاء في كتابات الباحثين والدارسين لها من أبناء هذه المناطق الليبية الذين وضحوا الخصوصية التي تنفرد بها الفنون الشعبية بمناطقهم ومنهم الأستاذان "عبد السلام قادر بوه وعمر المزوغي" رحمهما الله والدكتور عبد السلام شلوف وغيرهم كثيرين ، كما إنهم من خلال أبحاثهم هذه أفادونا بإن هذه الفنون لا تزال نقية ولم تتأثر كثيرا بتلك الفنون التي ربما قد وفدت إلى مناطقهم مع هجرة بعض السكان إليها من المناطق الليبية الأخرى عبر السنين ، فلماذا لا يقوم أعضاء الفرق الفنية الشعبية فيها باستتمار فنون مناطقهم ووضعها في برامج فنية حية لإبراز ثقافة أجدادهم التي أخذت في الاندثار بدلا عن الاتجاه لإحياء ثقافات أخرى لا يعرفون مكوناتها ومضامين تراكيبها وأهدافها ، وهو الأمر الذي قد يؤدي في مجمله إلى إنتاج برامج فنية سيئة لا ترقى تصاميم وإعدادات فقراتها إلى المستوى الشعبي الذي تؤدى به هذه الفنون في مناطقها الأصلية ، وذلك كأن ننقل فنون التوارق أو قبائل التبو مثلا أو موسيقى وأغاني الجنوب وفنونهم الحركية أو مظاهر فنون المناطق الغربية من مناطقها ليطبقها ويقوم بأدائها من لا ينسجموا معها فتخرج حتما معيبة وناقصة الأداء خصوصا في غياب إتباع المناهج العلمية لعملية النقل هذه ، وبالتالي تصبح سببا في انهيار فرقتهم التي كانت قد عقد عليها الأمل عند تأسيسها بأن تساهم في جمع وتدوين مظاهر الفنون الشعبية في منطقتها وتلتزم بهذا المنهج ، ليجمع لدينا من خلال برامج كل الفرق العاملة في هذا المجال مدخرا هائلا من فنوننا الشعبية قبل انقراضها ، وإن ذلك من شأنه تمكننا من توثيقها وحفظها بالطرق العلمية في أرشيف خاص يكون مرجعا لنا ، ونكون بذلك أيضا قد أسدينا خدمة جليلة لأجيالنا القادمة وهي إطلاعهم على فنون أجدادهم وآبائهم وتراث من سبقوهم لأنه يعبر بكل صدق عن عراقتهم وأصالتهم .
ولذلك أنني كم تمنيت لهذه الفرق أن التزم أعضاؤها بالدور الذي أنيط بهم وهو الاهتمام بالفنون الشعبية كل في نطاق محافظته "منطقته" وما حولها ، وخصوصا فرق المحافظات بالمناطق الشرقية كلها نظرا للتشابه الكبير والتقارب الملحوظ بين تركيباتها السكانية وعاداتها وتقاليدها وخصوصية "فنونها" التي أرى من الصعوبة بمكان أن يتناولها غير أهلها والعارفين بها جيدا سواء من ناحية بحثها ودراستها أو تناولها لإنتاج برامج فنية منها ، وكم فضلت انطلاق هذه الفرق لجمع فنوننا الشعبية كل في نطاق منطقتها ووضعها في برامج فنية متميزة تؤهل هذه الفرقة أو تلك بحق لتمثيل ليبيا كفرقة وطنية أيضا لا بالقول ولكن بالبرامج الفنية الممتازة المعبرة عن واقعنا الليبي المدون في مأثوراتنا وفنوننا الشعبية التي تبرز أصالتنا وعراقة تاريخنا في المهرجانات الدولية والعالمية بطابع بيئتها الخاص ، مثلما فعلت فرقة غات للفنون الشعبية التي تميزت بمحافظتها على فنون قبائل التوارق الليبية في برامج فنية رائعة مكنتها من فرض نفسها على كل الناس في كل بقاع العالم وأن خير دليل على ذلك (مهرجان غات السياحي) الذي صار يعقد في آخر كل عام ، وتشد له رحال المواطنين والسياح الأجانب قبل العرب من كل بقاع العالم .. لا أن يستورد أعضاء الفرقة فنونا من هنا وهناك لا تمت لواقعهم الاجتماعي بصلة فتخرج عندهم كفقرات دخيلة مشوهة لفنونهم الأصلية ، وقد ينتقدون ويلامون على طرق إعدادها وتقديمها نظرا لعدم قدرة من جلبها للفرقة على إخراجها وتنفيذها بالشكل المطلوب وبالطريقة المعروفة بها في منطقتها فتكون أقرب للتغيير منها لكيفية ممارستها في بيئتها الأصلية ، ومن ذلك مثلا استخدام آلة "الزكرة" المعروفة في المنطقة الغربية من ليبيا "الساحل وبالجبل الغربي" في فرق الفنون الشعبية بجنوب ليبيا أو في شرقها ، أو آلتي النوبة و"الغيطة" اللتين عرفتا بطرابلس عن طريق الأتراك "من التراث المكتسب" أو قبلهم حيث عرفت الغيطة بمناطق التوارق جنوب ليبيا أيضا ولكنها غير مألوفة في بعض المناطق الليبية الأخرى مثل مناطق الشرق الليبي وعند مواطني فزان بالجنوب والذين لا علاقة لفنونهم بهذه الآلات الموسيقية والإيقاعية الشعبية اليوم حتى وإن كانت هي ليبية الأصل والمنشأ .
وأنا هنا لا أعارض أن تشارك أي فرقة تعمل في مجال الفنون الشعبية لتمثيل ليبيا في المحافل الدولية ولكنني أدعو إلى ذلك شرط أن يكون البرنامج الفني للفرقة قويا ومعبرا فعلا عن الفن الشعبي الليبي لمنطقتها كما كان مطلوب من فرق المحافظات ، أو كان برنامجا شاملا ومأخوذا عن فنون كل مناطق ليبيا مثلما هو الحال بالنسبة للفرقة "الأم" التي أنشئت منذ البداية على هذا الأساس كما ذكرت في أوراق سابقة وحملت اسم "الفرقة الوطنية الليبية للفنون الشعبية" في زمن لم تكن توجد فيه أي فرقة عاملة في هذا المجال بليبيا ، وأرى إن ذلك هو ما يعطيها الحق في حمل هذا الاسم بجدارة دون غيرها رغم أنني صرت أتوق وبكل جدية إلى ضرورة تغييره إلى (البيت الليبي للفنون الشعبية والتراث) بعد أن عملت في هذه المجالات مدة وصلت اليوم إلى خمسين سنة كلها إبداع ونجاح ، ذلك لأن صفة الوطنية لا تنتزع عن أي مكون ليبي سواء فرقة فنون أو غيرها وهو ما يعني إن كل فرقنا الفنية "وطنية" بغض النظر عن مجال تخصصها أو المكان الجغرافي المحدد لها للعمل في نطاقه .
وأقول ذلك لأنني لاحظت في السنوات الأخيرة للأسف إن أغلب فرق المحافظات قد حادت عن منهجها الأصلي الذي أسست من أجله وصارت البرامج الفنية للبعض منها في مظهرها أما عبارة عن تكرار لفقرات برامج بعضها البعض دون الاجتهاد لإبداع يذكر ، أو بالاعتماد على فقرات البرنامج العام "للفرقة الوطنية الليبية للفنون الشعبية" بنسخها كما هي أو بتغيير اسم اللوحة الحركية أو إدخال بعض التحريف على مكوناتها أحيانا عن جهل بنواميسها وطرق أدائها والعادات المرتبطة بها في بيئتها الأصلية ، حيث وجد المشرفون على هذه الفرق في ذلك طريقة سهلة للوصول إلى الغاية المنشودة وهي السفر خارج ليبيا تحت اسم الفنون الشعبية وهذا بالطبع لا يخدم ليبيا أو هذه الفنون لا من قريب أو بعيد ، ولكنه قد يحقق أرباحا مادية لمن تبنى هذا المنهج وربما معنوية أحيانا وهو ما شجع الكثيرين ممن تركوا هذه الفرق الرسمية على تكوين فرق فنية حملت اسم "الفنون الشعبية" وانتشرت في كل أرجاء الوطن ليبلغ عددها في عام 1998م أكثر من ثلاثين فرقة تحت مسمى "فرقة ........ للفنون الشعبية" والغاية هي ما سبق ذكره حتى أنه في مدينة طرابلس وحدها وجدت ثلاثة فرق أخرى غير الفرقة الوطنية الليبية للفنون الشعبية "فرقة المسيرة ـ فرقة أبناء الشهداء ـ فرقة أبناء العجيلي" وأنا أرى أن في ذلك تشتيت للجهود وتشويه لفنوننا الشعبية لأن كل البرامج الفنية لهذه الفرق أما منبثقة عن لوحات البرنامج العام للفرقة الوطنية الليبية للفنون الشعبية "الأم" أو مستوحاة عنها ، وأن ما يدعو للأسف حقا هو إن مؤسسي هذه الفرق كانوا في يوم ما أعضاء متفرغين بهذه الفرقة العريقة ، وكل ذلك يجري في غياب القوانين التي تحمي فنوننا الشعبية وحقوق العاملين فيها ، الأمر الذي جعل عملية إنشاء فرقة للفنون الشعبية سهلة جدا ولا تخضع لأي مقومات أو شروط خصوصا في ظل المقولة الهدامة "فرقة في كل شارع" وهي التي تبناها واستغلها المسئولون عن أمور الثقافة والفنون الشعبية في هذا البلد فيسروا سبل الحصول على ترخيص لكل من أراد إنشاء فرقة تعمل في هذا المجال وهي "عازف زكرة وضاربي إيقاع على آلة دنقة أو أكثر" ، ومما تقدم ذكره فقد صارت تراودني كثير من الأسئلة حول إرسال هذه الفرق لتمثل فنوننا في المحافل الدولية ومنها ما لم أجد له إجابة مثل: كيف يمكن لفرقة مكونة من ثلاثة عازفين أن تمثل الفنون الشعبية الليبية في محفل دولي خارج ليبيا ؟ . أو حتى فرقة أخرى مكونة من عدة أشخاص وبدون برنامج فني هادف يرقى إلى مستوى فنوننا الشعبية الرائعة ؟ . ومن المسئول عن إيفاد مثل هذه الفرق القزمية لتمثل بلادنا في المهرجانات الدولية للفنون الشعبية ؟ وهل الغاية من المشاركة في هذه الفعاليات فعلا هو تمثيل فننا الشعبي الليبي فيها ؟ أو الكسب المادي من ورائها فقط ؟ . فمن لديه الإجابة ياترى على أسئلتي هذه ؟ . هل من مجيب ؟ .