الفن والموسيقى غذاء للعقل والبدن
من منا لا يدرك الأهمية البالغة للفن بصورة عامة في حياتنا ومدى تأثيره على صحتنا ـ فالفن كما قال الأولون هو (غذاء الروح) ، ومنطلق هذا القول إن الإنسان تحكمه عدة غرائز ، منها ما هو خفي وأخرى تبرز وتختفي مثل : الجوع ، العطش والجنس وغيرها من غرائز الحس ذات الرغبات التي يمكن إشباعها ماديا ، فالجوع ينهيه تناول الطعام والعطش يلغيه شرب الماء أو السوائل وأما الغريزة الجنسية فتشبعها ممارسته .
وأما الغرائز الشعورية أي (الرغبات) التي قد لا تحس بأثرها المباشر عليك بل ولا تشعر بأنك محتاج إلى إشباعها ، وفي كثير من الأحيان يتم إشباع بعضها أما عن طريق الصدفة أو بالتكلف وصنع ما يعمل على ذلك ، فإنها تلك الغرائز المتصلة بالعقل مباشرة وتتأثر تلقائيا بتفاعلاته مع الأحداث من حوله وبشكل سريع جدا ، وقد لا تملك حتى السيطرة عليها أثاء تناولها لما يشبعها وبشكل لا إرادي ، ذلك لأن إشباع هذه المشاعر يحتاج إلى أشياء من جنسها ليتحقق ، وهذه الرغبات هي ما يمكن تعريفه (بالمشاعر الإنسانية) كالفرح والغضب والتوتر والاكتئاب وما شابهها ، وهي التي تحتاج حتما إلى أشياء معنوية من خارج مكمنها لإشباعها أو التخلص منها بإشغال العقل بالتفكير في أمور نظرية ومواضيع عملية أو علمية لنسيان أسبابها مم يحقق الابتعاد عن التفكير فيها تلقائيا ، ذلك في حالة المرء الطبيعي ، أما في بعض الحالات فهناك من يتناول بعض العقاقير المهدئة بل والمخدرة أحيانا ليشل عقله عن العمل بتاتا لينسى كل شيء ، وأما أفضل العلاجات هي اللجوء إلى ممارسة الأعمال البدنية التي من أهمها الأنشطة الرياضية بجميع أنواعها مثل كرة القدم والطائرة والجري والسباحة وركوب الخيل وغيرها من الأعمال الحركية الأخرى التي عادة ما تعود على الجسم كله بفوائد عديدة وعلى العقل بالرياض والراحة والاستقرار، وجميع هذه الأعمال كما نعلم تندرج في قائمة "الفنون" التي تضم أيضا ـ الطرب ـ كفن له أصوله وقواعده وتأثيره المباشر على النفس البشرية والحيوانية أيضا ، ويعتبر فن الموسيقى من أهم عناصره ومكوناته الأساسية .
ومن واقع التأثير المباشر لهذه الفنون على الشعور الإنساني الذي يرتبط برباط وثيق مع الروح "أساس الحركة" وعرفه الناس منذ زمن بعيد جاءت مقولة "الفن غذاء الروح" ، وأرى أن هذه الكلمات تعبير عن حقيقة أكيدة ، لأن الفن فعلا يغذي العقل بالكثير من المعارف التي تساعد لتذليل بعض مصاعب الحياة ، وهو ليس كما يعرفه البعض بأنه "كذبة يجب أن نصدقها" وهو ما جاء على لسان الممثل الليبي "فتحي كحلول" عند تعريفه للفن بكلمة ألقاها في مسرح لبدة الأثري عام 1998 م ، ولكنه تصوير لحالة المجتمع وتوثيق لما يجري فيه خصوصا عندما ينبع من قلب صادق غير منافق وعقل راجع ليس بمتملق ، فالفن هو الصدق والحقيقة الدامغة التي تبرز للمجتمع نجاحات أبنائه ليكافئ المجتهدين منهم والذين لهم مساهمات جليلة في بنائه ، كما يكشف عن أخطاء بعضهم بصور شتى ليصححها وذلك بالبحث عن أسباب قضاياهم الاجتماعية لدراستها وعلاجها ، كما إن الفن في بعض جوانبه يحاول التصدي لكل ما من شأنه أن يضرَّ به وببنيته الثقافية المرتبطة بكل مناحي الحياة ليوقف تطوره وتقدمه ، وهو أيضا يعمل على توجيه أبناء المجتمع نحو الطريق الصحيح للوصول إلى سبل التحصيل العلمي الذي يساعد على الإبداع والتقدم وتحقيق الرخاء ثم العيش في حرية وسعادة وأمن وهناء وذلك كله لن يتحقق لأبناء المجتمع إلا عن طريق ، معرفة الحقائق المختلفة التي لا يمكن الوصول إليها إلا بممارسة الفن ذو الفوائد الكثيرة .
ومن خلال دراستنا لما دونه الأولون من المهتمين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ، فإننا ندرك وبكل بساطة ، إن المشاعر الغاضبة لدى المرء قد تهمد عندما يقوم بممارسة أي نوع من أنواع الفنون التي عن طريق بحثها ودراسة علاقتها بنمو البدن والعقل قد توصل العلماء إلى حقيقة علمية مفادها إنه "يمكن استعمال فنون الرياضة والموسيقى في علاج بعض الأمراض النفسية .." ، ولا شك في أن الفضل في الأساس يرجع إلى قداما الناس الذين ابتكروا الحركات الرياضية وعرفوا فوائدها ، وأولئك المبدعين من الفنانين الأوائل الذين اخترعوا لنا العديد من الآلات الموسيقية القديمة التي تم تطويرها فيما بعد وصرنا نراها في أشكال متعددة اليوم ، ولكن هذا التطوير لم يستطع أن يلغي تلك الآلات البدائية الأولى التي عزفت عليها الموسيقى الشعبية ، وهي التي ما تزال تؤثر فينا أنغامها بمجرد سماع أصواتها التي تشدنا إلى ماضي الأجداد وتجعلنا ننسجم مع الأنغام الشعبية التي تعزف عليها وورثناها جيلا عن جيل ، وهو ما يحقق النجاح دائما لأي فنان يتناول هذه الأنغام ويردد كلمات أغانيها أو يجددها بما يرتقي إلى مستواها ومن ذلك النجاحات التي حققتها العديد من الفرق الفنية التي اعتمدت عليها عند إعداد برامجها حتى باتت تعرف باسم فرق الفنون الشعبية .
ولعلي لا أكون مخطئا عندما أقول إن من أهم أسباب نجاح برنامج "الفرقة الوطنية الليبية للفنون الشعبية" هو اعتماد الفنانين المبدعين من أعضائها عند إعداد أو تصميم أعمالهم الفنية بصورة كلية على الآلات الموسيقية الشعبية واستخدامها بشكل مباشر أثناء عزف الأنغام التي تصاحبها وقت التنفيذ والعرض ، وهي في مجملها ذات طابع بدائي ولكن ما يصدر عنها من أصوات منغمة غاية في الفنية والروعة ، وهذه الآلات يوجد العديد منها في ليبيا ، وكانت الأفراح الشعبية لا تعقد إلا بواسطتها في كل أرجائها ومن أهم ما وصلنا منها عن طريق توارث الأجيال لها هذه التي سأتحدث عنها في الأوراق الجديدة القادمة